أضواء كاشفة .. قراءة فى رواية

 


       قراءة في رواية " رحلة ابن فطومة " 

                      لنجيب محفوظ 


بقلم / همت مصطفى

رواية "رحلة ابن فطومة"  للكاتب نجيب محفوظ التي كتبها في عام ١٩٨٣ تقع في ١٣٠ صفحة  . 

ولعل  العنوان بالنسبة لي هو الجاذب الأول لأي عمل ، بل يولى النقد على اختلاف مدارسهم للعنوان أهمية قصوى  أهم باعتباره عتبة النص الأولى التي تشي إلى حد ما بالفكرة المقدمة ، وإن كان هناك بعض العناوين المغلقة التي تحتاج لفهم العمل أولا لفك طلاسمها  ، وهنا - في تلك الرواية -   لم أقف طويلاً أمام  عنوانها ؛  فقد كان واضحاً لي أنها رواية عن أدب الرحلات أو الرحالة كالرحالة "ابن بطوطة" . 

"أيهما أسوأ يا مولاي :  من يدعي الألوهية عن جهل ، أم من يطوِّع القرآن لخدمة أغراضه الشخصية ؟ " 

إن تلك الجملة التي وردت بالرواية  تطوف بك العالم بحثًا عن المدينة الفاضلة ؛ حيث البشر الحائرون بين واقع قبيح وحلم لا يتحقق .

تبدأ الرواية بداية هادئة نوعاً ما ببعض الكلمات عن الشيء وضده مثل الحياة والموت ، الحلم واليقظة، الخضوع والعناد ، وسؤال عم تبحث أيها الرحالة ؟، ويبدأ السرد عن  "محمد العنابي" التاجر فاحش الثراء الذي تجاوز الثمانين من عمره  ، 

وأنجب سبعة رجال يعملون جميعاً بالتجارة ، ولكن رغم هذا العمر رأى "فطومة الأزهري" بنت السبعة عشر ربيعاً ، فتغلغلت سهام حبها في قلبه وتقدم لخطبتها وتزوجها ، رفض الأبناء هذا الزواج ووقفوا أمامه ، ولكنه لم يعبأ بهم ، ولم ينظر إليهم فقد أصبح عاشقاً لها ، ورأى أن زواجه أمر غير خاضع للمناقشة ،  وأن فارق السن وهم يتعلل به المغرضون ، وراح ينهل من السعادة ما عوضه عن الشقاء ،  وكان ثمرة هذا الزواج طفلاً  سماه  أبوه " قنديل " ولكن إخوته أطلقوا عليه "ابن فطومة"، ومات أبوه قبل أن يطبع صورته في عينه وترك لهما ما يغنيهما عن السؤال طيلة حياتهما ، خافت عليه أمه من أخوته وحجبته عنهم وعن الجميع ، حتى أتت له بالشيخ "مغاغة الجبيلي" جارهم ليلقنه العلم في داره ، وكان شيخاً واسع العلم ، وكان يحكي له عن رحلته منذ سنوات كرحالة إلي بعض البلاد ليصل في منتهاها إلي دار الجبل بحثاً عن دار الحق والحرية والكمال ، فشغف "قنديل" بحكايات الشيخ عن رحلته التي توقفت ولم تكتمل بسبب اندلاع حرب أهلية بين آخر بلدين زارهما ، وأصبح "قنديل" شاباً يافعاً وأحب جارته "حليمة"

وقام بخطبتها ، ولكن حدث ما لم يحمد عقباه ،

 فقرر أن يقوم برحلته كرحالة لينسى ما ألم به ،

وليبحث عن الحقيقة والعدالة ودار الجبل التي ستمكنه من مساعدة وطنه للخروج من دائرة الخلاف والتفكك والظلم والعدالة المفقودة في بلاده ،

 كان خط سير رحلته .. دار المشرق ، دار الحيرة ، دار الحلبة ، دار الأمان ، دار الغروب ، دار الجبل  وهي ما يطلقون عليها دار الكمال . 

وبمنتهى البراعة ينتقل الكاتب بين أنظمة الاستبداد والظلم و بإسقاط رائع جداً  للأنظمة الدينية ، والسياسية ، والاقتصادية ، والسلوكيات الاجتماعية ، مع توصيف بالغ الدقة للخلافات والحروب بين البلدان و لأنظمة الحكم التي مر بها الإنسان أياً كانت دولته  ، وحتماً سيرى نفسه ووطنه داخل فصول الرواية . 

حقا لقد استمتعت جداً بالرواية  التي فتحت أمامي آفاقاً جديدة ، وبالسرد الممتع للشخصيات و الأماكن ،  الذي جعلني أراها صورة حية أمامي ولم أشعر معه بالملل  و بالحوار الرائع  بين الشخصيات  . 

 ومن أمثلة اختلاف الشعوب وروعة الحوار حواره في دار الحلبة مع الإمام عن الحرب الدائرة بين دار الحلبة ودار الأمان حول عيون المياه ، و قد قامت دار الحلبة بإلغاء اتفاقية عيون المياه ، فسأل قنديل الإمام عن الحكم أخلاقياً عن إلغاء الاتفاقية ولأنها أساس أخلاقي وإلا انقلب العالم لغابة . فرد الشيخ  "فأين الإسلام الأخلاقي؟ .. ورجال دين يخضعون الدين لخدمته فأين الأساس الأخلاقي ؟.. وشعب لا يفكر إلا في لقمته فأين الأساس الأخلاقي ؟ . "

فسكت قنديل ولم ينطق ببنت شفة  بعدما اعترضت غصة حلقه مما يسمع ؛  لأنه أدرك إنه الحقيقة المؤلمة .

رحلة ابن فطومة القلقة المليئة بالرموز العميقة والخلابة  التي تحيطها الفلسفة والعبر ، فى قالب خيالى بديع ومشوق بين دار المشرق ودار الغروب وبينهما صراعات الحيرة والحلبة والأمان إلى الاستقرار في "المدينة الفاضلة"  دار الجبل التي طمسها الكاتب  وترك نهايتها للعقل الحائر الذي انتظر طويلاً ليصل لنهاية لا وصول لها ،  ويبقى السؤال في إنتظار الإجابة  "ترى هل سنصل يوماً لمجتمع متكامل يسوده العدل والمساواة والحرية والكرامة والأمان والسعادة  ؟!" 



رحلة ابن فطومة

نجيب محفوظ

#همت_مصطفى

تعليقات

المشاركات الشائعة