أضواء كاشفة .. الحلقة السابعة والأربعون

 


كتبت - زهره مصطفى 

ألقينا الضوء فى عدد من الحلقات السابقة عن فن التراث  .. وخصصنا الحوار عن فن الواو .. للمتابعين الجدد هنا تستمر حلقاتنا فى شرح هذا الفن للوصول الى معرفة الكثير عنه .

                    ماذا تعرف عن 

               " فن الواو" 

                   ……


 وكما أن المربعات الواوية  ابتدعها أهلها  للتسلية فى جلسات السّمَر ، فى الساحات ، والدواوير ، وحوالين الجرون والمساطيح ، فى الليالى القمرية ، وكذلك ما تمخض عن ذلك من مربعات الألغاز التى كانت تلقى لشحذ القرائح الذهنية ، وتحدى القدرات العقلية ، فى حالة تبارى بين القوّالين ، فيقول أحدهم للآخر :

إن كنت راجل  و  فنّان / وتبان عليك الشطارة 

قول لى السما كام فدّان / وادّيك عليها أمارة 

***

فيرد عليه بقوله :

صلاة النبى تمنع ابليس / فيها الفايدة والتجارة 

إسْحَب قَصَبْتَكِ وْ قِيس / ووراك انكّت حجارة 

***

وأيضًا للابتعاد عن الملل ، فصار وجوب تحلّيها بالجناسات التامة على سبيل التعويض عن عدم وجود بلاغة القصيدة الفصحى الموروثة - من كنايات واستعارات ، وأساليب بلاغية أخرى - وهناك ميزة يجب ألا نغفلهاأبدا ، وهى المشاركة الوجدانية بين القوّال والمتلقى ، إذ أنّ هناك خيطا غير مرئيا يربط بين القوّال . والمتلقى ، وهو الخيط الذى يجعل المتلقى دائما متيقظا وواعيا لكل ما يقال ، حريصا على ألاّ تفوته  أيّة كلمة قد تتسبب فى عدم قدرته على الوصول إلى مكنون الجناس فى القول الذى تمّ …

وعلى الرغم من وضوح المعانى التى تتضمنها أشعار " فن الواو " ، فقد استمدّت هذه الأشعار جاذبيّتها ومقوّمات خلودها ، من صياغتها الشعرية . .  ولقد تمخّضت جلسات قول "فن الواو" - فى الجنوب - عن الصياغة الملحمية الصعيدية للسيرة الهلالية ، والتى قيّض الله لها مريدين من الرواة ، يحفظون هذه السيرة ، جيلاً عن جيل ، يقولونها بمصاحبة العزف على الربابة ، مما جعل دور الربابة ضروريا وهامّا -  وإلى الآن ، وسيظل - عندإنشاد هذه السيرة الملحمية ، التى تضاهى "الإلياذة" و" الأوديسّا " التى كان يقولها الشاعر اليونانى القديم " هوميروس " على قيثارته ، ومما يُحسب لمربع " فن الواو" - المصاغ على بحر المجتث - استيعابه لهذ القص الملحمى ( والذى يقال إنه بلغ المليون مربعا ) والمحفوظ ، والذى وصل إلينا عن طريق الحفظ الشفاهى ، ولم يكن مدوّنا إلا فى ذاكرة وصدور هؤلاء الحَفَظَة ،الذين يرجع إليهم الفضل فى مجالين كبيرين ، هما مجال الأداء الشفاهى للسيرة ، ومجال البراعة فى العزف على الربابة التى تعتبر الآلة الموسيقية الوترية التى تعتبر  هى أم الوتريات فى الموسيقا الغربية (  الكمان - الفيولا ، والفيولينا -  ، والتشيللوا ، والكونترباص ) …!

*****

ما دعانى إلى أن أقوم بتسجيل ديوان  ( واو  .. عبد الستار سليم ) كاملا - وهو يضم ثلاثة دواوين من هذا الفن كانت قد صدرت على مراحل متعددة - هو ذلك الرأى  القائل :

كما هو شأن كل الفنون الشعبية  القولية ، نرى أن الكتابة بقدر ما تُحسِن إلى الفن ، حيث تحفظه للأجيال التالية دون تحريف ، بقدر ما تسئ إليه ، إذ أن كتابته مهما أوتيت من براعة ، لا تستطيع أن تُعطى للقارئ نفس الصوتيات ، وطريقة نطق الكلمات التى تمثّل - مجتمعة - 

خصوصية كل فن قولى ، وتحمل سمات منطقته التى وُلد فيها وعاش ، فلكل أدب بيئته التى لا يمكن فصله عنها ، ولا ينجح من لم يخاطب الناس بلغتهم ، أى اللغة القليدية التى أقاموا عليها، وعرفوا بها أنفسهم وتقاليدهم .. ولا شك فى أن وجود التواصل الحارّ - بين المبدع والناس - هو سبب الشهرة الحقيقية .. وإذا نظرنا إلى المربع التراثى الذى يقول :

خايف أقول لُه يقولّهْ  / والقلب مرعوب وخايف 

أُبْقِى   قُو لِيلُه   يقُلّه  / حين تِوْردِى عا الشّفايف

***

فهنا كيفية نُطق (أقول له يقولّه) و (قوليلُه يقُلّه) لا تظهر حلاوته وطلاوته إلا صوتيّا  

 والشعر الجيد هو ما كان قريب المأخذ ، غير مُتَكَلّف ، خاليا من التعقيد، مُسْلِمًا إلى تهذيب النفوس . .

 ولا بدّ أن نُذكّر بأن الشعر لا يُصنع من الأفكار، ولكن من الكلمات ، فالشعر هو فن استعمال اللغة ، وكيفية تشكيلها ، وإنما يُعدّ الشاعر شاعرا لا لأنه فكر  أو أحسّ، ولكن لأنه عبّر، فهو ليس مبدع أفكار ، وأنما هو مبدع كلمات ، وكل عبقريته تكمن  فى اختراع الكلمة ، والتشكيل  اللغوى الخاص ، وأيضًا يحسُن الشعر بجمال قوافيه ..

 ومن فضل القول أن نؤكد على أن الشعر له ركيزتان ، هما الشعور الصادق ، والتعبير الجميل ، والشاعر ليس فقط صانع أوزان ، بل هو أيضا راسم صورة بالكلمات ، (صورة بيانية  صحيحة التركيب )، فهناك أُناس قد أتقنوا الوزن وأهملوا الشعر، كما أن هناك أناسا اكتملت أدواتهم  ولم تكتمل رؤاهم ، ولذا فإن الحكم على جودة الشعر يكون بمقدار ما فى مضمونه من قِيَم ، وما فى صياغته من فن ، ولا يظنّ ظانّ أن هندسة بناء الشكل تصنع شعرا ، فذاك النظم ، كما نظم ابن مالك ألفيّته  - على سبيل المثال -

*****

                                               (يتبع  👈)



                الشاعر/  عبد الستار سليم

                   ناقد وباحث فى التراث

            متابعة الشاعرة / همت مصطفى 

     المستشار الاعلامى للشاعر عبد الستار سليم 


تعليقات

المشاركات الشائعة