شِبَّاك

 



بقلم / محمود كامل عوده

بينما يتقلّب فى فراشه يصطدم بالكتب التي تزاحمه  يومياً مع بعض الاحلام التى لا مأوى لها  والتى تمنحه نفسها مقابل المبيت والقليل من الفُتات إن أمكن هذا  ،  يرفع وسادته الصغيرة من فوق رأسه محاولاً فتح عينيه ولكن بصعوبة فقد باءت كل محاولاته بالفشل فى إيقاف نزيف الضوء الذي أحكم قبضته على الحجرة بعد أن أستسلمت له طواعية ضلفتى الشيش اللتان فقدتا معظم أوراقهما بحكم الشيخوخة وكذلك قطعة القماش المهترئة المُسمّاة ستارة

نهض متكأً على ملامحه الغاضبة وهو يبحث عن إحدى فردتي الشبشب فاذا بوالده يستوقفه بصوته الخشن فيجيبه بصوت ممتعض حاول  جاهداً  إخفاءه

-- أدينى صحيت على الله  ماتبقاش الظروف زى كل مرّة . 

فيرد والده ،

::  ماتصدعنيش وبلاش جدل خصوصاً فى الديانة اللي إتغيّرت . 

معطياً ظهره لوالده إنصرف ليقوم بتشغيل الراديو الذي جاء  على صوت إحدى المذيعات وهى تستعرض أسعار بعض العملات الأجنبية فيدير عجلات الراديو ليتوقف عند صوت فريد الأطرش  ( الحياه حلوة بس نفهمها ) ، 

يجثو بركبتيه فوق السرير ليلملم كُتبه المتناثرة فهو يقرأ يومياً حتى الثمالة لسيتدرك على نفسه ما فاته من التعليم ثم أزاح بيديه ستارة شباك حجرته المُطلّة على شارع السوق الرئيسى ليعلن عن  بدء مسرحيته اليومية ناظراً الى الأحلام التى أطلقتها يداه بعد أن قبّلها والتى أوشكت أن يبتلعها الفضاء كأنه يريد أن يقول شيئاً ، 

كان يقتنص بقدر مايستطيع من الهواء النقى الذى لم تٌفض  بكارته بعد عوادم مدخنة الفرن المجاور لمنزله والغُبار الذى بدأت توقظه أقدام المارًة والبائعين وقبل أن تمتلئ رئتاه بالدخان كعادته التى توارثها عن أبيه فبمجرد أن تكتحل عيناه بالضوء تمتد يداه الى ماتبقى فى علبة سجائره مع كوب الشاى المُحلًى بخمسة ملاعق من السكر ، 

بملابسها الساخنة كالعادة والتى زاد من سخونتها اليوم أحد نهديها التى تركته متدلياً فوق صدرها بعد أن أرضعت طفلها ورفعته فوق كتفها ظهرت جارته الجديدة فى الشباك  المقابل لشباك مطبخه والتى  راحت توجّه اليه تحية الصباح بابتسامة جعلت يده تتوقف عن الدوران داخل كوب الشاى مثلما توقفت جميع حواسه عدا عينيه التى تحولتا الى كاميرا بدأت تُخزّن ما تلتقطه خلسة من صدرها العارى كى يتقوّت بها  اذا  ما عاودته أعراض الرغبة و اقتضى الأمر لذلك  ، 

يبدو أنها تريد شيئاً فيستأذنها لخفض صوت الراديو فيستوقفة والده للمرّة الثانية قائلاً ، 

--  خلى بالك دى ست محترمة ف إقفل الشباك وإدخل و كمان عشان تلحق ميعادك الجهاز تحت السرير وللا انت ماأخدتش بالك من الإعاقة؟

مندهشاً يرد . 

-- صحيح ايه لزمتها الإعاقة دى مش كفاية الظروف اللي كل مرة مهببة . 

بصوت تكسوه الحِدة يرد والده 

::  نفّذ المطلوب وأنت ساكت لسّه الأحداث كتيرة وانا مش ناقصك . 

يقاطعه متسائلاً . 

--  بس أنا عايز أفهم 

بصوت ثابت لايهتز إلّا من سخرية تعتليه يأتى صوت والده ، 

::   وحتى إن فهمت هتنفّذ هتنفّذ . 

ناظراً الى والده وبهدوء غير معتاد يقول ، 

--   أسف مش هقدر أكمّل . 

يعود الى شباك المطبخ ليدخل مع جارته فى حوار لا يقل سخونة عن نهدها الذى مازال متدلياً من صدرها  بعد أن أطاح بصورة والده من شباك حجرته  دون أن يكترث للشريط الأسود فوق البرواز والذى تعلق بيديه كأنه يريد أن يقول شيئاً . 

تعليقات

المشاركات الشائعة