( ملحمة كبريت )

 



كتب - جمال النجار 

حدث فى أكتوبر 1973 ( 43 )

 ( ملحمة كبريت )

كنت أتمنى أن يقوم اى إنسان آخر بالكتابة عن هؤلاء الرجال خشية ألا أستطيع أن أوفيهم حقهم فهم اكبر من كل الكلمات 

يوم 6 أكتوبر قامت القوات المصرية بحصار احد حصون خط بارليف فى منطقة لسان بور توفيق المواجهة لمدينة السويس من جهة الشرق بسيناء 

وبعد سبع أيام من الحصار طلب قائد الحصن من قيادته السماح له بالاستسلام لعدم مقدرته هو ورجالة على تحمل الحصار أكثر من ذلك فسمحت له قيادته بالاستسلام بعد أن ابلغها انه عازم على تنفيذ قراره 

وتم الاستسلام فى حضور الصليب الأحمر الدولى ووسائل الإعلام العالمية التى صورت 

القائد الاسرائيلى وهو يسلم العلم الاسرائيلى للضابط المصرى ويرفع يده بالتحية العسكرية للعلم المصرى الذى يرتفع فوق الحصن وكانت صورة لها معناها

والغريب انه عندما دخل الجميع الحصن وجدت به ذخيرة وطعام ومياه تكفى قوة الحصن للقتال لمدة شهرين وكانت تحصينات الحصن توفر الحماية التامة لأفراده . ولكنه السوبر مان الاسرائيلى اختار الاستسلام بعد سبعة أيام حصار

وكانت الكتيبة المصرية رقم 603 مشاة أسطول

 بقيادة المقدم / إبراهيم عبد التواب 

قد عبرت القناة وتحركت يوم 9 أكتوبر لمهاجمة احد حصون خط بارليف وهو حصن بوتزر بمنطقة كبريت بسيناء ولكن قوات العدو انسحبت وتركته رغم مناعته واستولت عليه الكتيبة المصرية بدون قتال

وأدرك المقدم إبراهيم عبد التواب أن إسرائيل ستحاول أعاده الاستيلاء على الموقع نظرا لأهميته فأمر رجاله بجمع الألغام الاسرائيليه من حقول الألغام وأعاده رصها فى مواقع جديدة لا يعلمها العدو  

وفى اليوم التالى 10 أكتوبر حاول العدو الاستيلاء على الحصن مرة أخرى نظرا لأهميته 

وقام العدو  بقصف بالطيران بلغت الغارات الاسرائيليه المستمرة غاره كل خمسي دقائق ألقت فيها الطائرات الاسرائيليه 2500 طن من المتفجرات على الموقع

وشاركت المدفعية الاسرائيليه فى القصف بمنتهى العنف 

وتقدمت عشرين دبابة إسرائيليه للاستيلاء على الموقع متصوره انه تمت أباده القوه المصرية به 

وأمر إبراهيم عبد التواب رجاله بحبس نيرانهم حتى تورطت الدبابات الاسرائيليه فى حقول الألغام التى فوجئت بها فتوقفت 

وهنا وبأمر من إبراهيم عبد التواب فتح الرجال نيرانهم وتم تدمير 16 دبابة فى لحظات وأصيبت القوات الاسرائيليه بالذعر وترك أطقم الدبابات الاربعه الباقية دبابتهم سليمة وفروا على أرجلهم 

وأعاد الطيران الاسرائيلى والمدفعية الاسرائيليه قصف الموقع بمنتهى القوه والعنف 

ودفعت إسرائيل عربه مدرعة بها عناصر الاستطلاع الاسرائيليه لمعرفه تأثير القصف الاسرائيلى قبل تكرار محاوله الاستيلاء على الموقع

وقام احد أفراد الكتيبة بضربها بطلقة أر بى جيى فانقلبت وتم اسر ثلاثة من جنود الاستطلاع الإسرائيليين اعترفوا أن هناك غاره جوية كبيره يتم الإعداد لها لتدمير الموقع فى الخامسة عصرا

واستمر مسلسل قصف الحصن بالطائرات والمدفعية يوميا حتى يوم 22 أكتوبر 

عندما صدر قرار وقف إطلاق النار الذى استغلته إسرائيل وتحت ستارة تسللت وحاصرت الحصن من جميع الجهات حتى أصبح جزيرة معزولة وسط القوات الإسرائيلية التى حاولت مرارا استعادته ولكن القوة المصرية كانت تتصدى لكل المحاولات وتكبدها خسائر فادحة تجبر الإسرائيليين على الانسحاب 

وحضرت ماما أمريكا بالصواريخ الحديثة الخاصة بتدمير الدشم المحصنة وقامت الطائرات الاسرائلية بتدمير الحصن وهم يتصورون أن الرجال سيستسلمون ولم يدركوا أن ما يحمى الرجال ليس الدشم ولكنه حرصهم على الاستشهاد هو ما يهب لهم الحياة فقد كانوا يدركون من البداية أنها رحلة ذات اتجاه واحد 

مصر سيناء الجنة

وتسارعوا إليها 

وكانت أوامر القيادة الإسرائيلية هى القضاء على القوة المصرية وإجبارها على الاستسلام بأي طريقة

 وعرضوا على إبراهيم عبد التواب الاستسلام تحت إشراف الصليب الأحمر على أن يتم إعادته هو وجنوده إلى مصر فورا وخاصة أن الحرب انتهت وهناك وقف إطلاق نار ومفاوضات جارية ولا داعى للموت ولم يدركوا أن الرجل لا يعرف معنى كلمة استسلام وان ما يسمونه موت يسميه هو استشهاد يبحث عنه ويتمناه

وفى يوم 17 نوفمبر وصلت إلى المقدم إبراهيم عبد التواب اشاره من القوات الدولية التى تراقب وقف إطلاق النار أن هناك طائره هيلكوبتر إسرائيليه ستصل إلى الموقع وعليها رجال الصليب الحمر الدولى لإخلاء  الجرحى الموجودين بموقع كبريت ولكن إبراهيم عبد التواب رفض بناءا على موقف الجرحى الذين رفضوا ترك زملاؤهم وفضلوا البقاء معهم وكان رد إبراهيم عبد التواب انه لو وصلت الطائرة فانه سيطلق عليها النيران 

وكان اندهاشهم من أين يأكل ويشرب هو وجنوده بعد أن أحكمت القوات الإسرائيلية حصارها للموقع المدمر من جميع الجهات 

وكانت رحلات إحضار الطعام والماء رحلات انتحارية يتطوع لها الضباط والجنود 

( حاولت القوات المصرية إمداد الموقع باللنشات ولكن الطيران الاسرائيلى والمدفعية الاسرائيليه كانت تتصدى لتلك اللنشات فقام رجال موقع كبريت بعمل مراكب بدائيه ( طوف ) من الأخشاب التى انتزعوها من بقايا الموقع الاسرائيلى وكانوا يجدفون بأيديهم فى صمت وهدوء عبر البحيرات للضفة الغربية ليحضروا بعض الطعام وسط انفجارات القنابل التى كانت تطلقها المدفعية الاسرائيليه 

رحلات استشهادية اقبل عليها الرجال بحب

 بينما قام بعضهم برحلات أخرى بريه بالتسلل عبر القوات الاسرائيليه ليلا على أقدامهم لإحضار ما يستطيعون حمله من رجال الجيش الثالث شرق القناة 

كان طعام المقاتل فى اليوم الواحد

ربع علبه فول 125 جرام

ربع باكو بسكويت

ربع لتر ماء 

كميات قليله لا تكفى طفل صغير فى وجبه واحده ولكنها تحمل معنى الرجال 

واقترح احد الجنود من خريجى كليه العلوم أن يقوموا بتقطير مياه البحيرات 

وقام بانتزاع تنكات الوقود من العربات المدمرة وكانوا يشعلون الأخشاب التى ينتزعونها من باقيا الموقع الاسرائيلى ليحرقوها تحت تلك التنكات بعد ملئها بمياه البحيرات المالحة ويمررونها عبر مواسير الوقود التى انتزعوها أيضا من العربات المدمرة لتتكثف عليها المياه تحت تأثير بروده الجو 

كميات قليله من الطعام والمياه لكنها كانت كافيه لتحفظ للرجال حياتهم حتى يستمروا فى القتال )

وكان القليل الذى يصل يوزع على الجميع حيث كان طعام المقاتل الواحد يوزع على خمسة مقاتلين ثم مع إحكام الحصار كان يوزع على عشرة وأحيانا خمسة عشر وعشرون

وكان آخر من يأكل هو إبراهيم عبد التواب الذى كان الأذان للصلاة وإمامتها احد مهامه الهامة بجانب القيادة والقتال

وفقد الكثير من الرجال قدرتهم على الكلام من قلة الطعام والماء ولكنهم لم يفقدوا قدرتهم على القتال 

إذ اكتشف إبراهيم عبد التواب أن الدبابات الإسرائيلية المواجهة له تنسحب ليلا وتعود مع خيوط الصباح لموقعها لتواصل قصف الموقع

وتحت جنح الظلام يتسلل الرجال ويحتلون الموقع وفى الفجر تفاجأ الدبابات الإسرائيلية بالأمر بعد تدمير خمسة منها وتنسحب باقى الدبابات وتتقدم إسرائيل بشكوى عن خرق مصر لوقف إطلاق النار وكأن قصفهم اليومى للحصن ليس خرقا لإطلاق النار 

وقذفته إسرائيل بكل ما فى ترسانة السلاح الامريكى من قنابل وصواريخ ودانات 

قصف مستمر بالمدفعية والدبابات والطائرات والصورايخ ارض / ارض

قصف لا يتوقف ليل ولا نهار لتحطيم أعصاب الرجال أو إبادتهم 

 فى محاولة لإجبارهم على الاستسلام وخاصة بعد أن تحول صمودهم إلى أسطورة يتحدث عنها العالم بأكمله ويقارنها باستسلام السوبرمان الاسرائيلى يوم 13 أكتوبر فى موقع لسان بور توفيق

والرجال يردون على القصف بالقصف 

ويصمدون فى مواقعهم بكل استبسال 

توقف القتال على الجبهة المصرية بأكملها تنفيذا لقرار مجلس الأمن واتفاقيه فك الاشتباك 

ماعدا موقع كبريت 

اختفى صوت الرصاص من الجبهة بأكملها ولكنه ظل يدوى مصحوبا بانفجارات القنابل والدانات والصواريخ فى موقع كبريت 

وكان يوم 17 يناير 1974 اشد أيام القصف ويستشهد فيه 

البطل المقدم /إبراهيم عبد التواب

 وسلاحه فى يده والمصحف فى اليد الأخرى

والغريب انه بعد ذلك اليوم توقفت إسرائيل عن قصف الموقع نهائيا بعد أن أصابها اليأس  من إجبارهم على الاستسلام وان استمرت فى حصارهم

وكأن قصف يوم 17 يناير 1974 كان له هدف واحد أرادته السماء وهو إعطاء المقدم / إبراهيم عبد التواب وسام الاستشهاد مكافأة له على جهوده واخلاصة وصموده

( اللهم تقبله فى الشهداء الأحياء عند ربهم يرزقون والحقنى به )

واستمر حصار إسرائيل للموقع حتى جاء يوم 12 فبراير 1974

وانسحبت إسرائيل إلى خط المضايق الجبلية تنفيذا لاتفاقية فك الاشتباك ورفع الحصار عن الموقع بعد (134 يوم) تحت الحصار

ودخلت القوات المصرية إلى الموقع لتحتضن مصر الرجال 

مائة وأربعة وثلاثون يوما تحت الحصار ولم يستسلم الرجال

مائة وأربعة وثلاثون يوما قتال وصمود أمام كل ما تمتلكه أمريكا من أسلحة وصواريخ وقنابل ولم يستسلم الرجال

مائة وأربعة وثلاثون يوما يعيش الرجال فى حضن الموت من اجل مصر 

مائه وأربعه وثلاثون يوما يتحملون القصف بأقوى واحدث ما تمتلكه أمريكا من قوه دمار وقتل 

مائه أربعه وثلاثون يوما لا يعرفون اى شىء عن عائلاتهم وأسرهم وإسرائيل تلوح لهم وتدعوهم للاستسلام وإعادتهم إلى مصر فورا وهم يرفضون

مائه أربعه وثلاثون يوما وايزيس تصرخ بفخر بصمودهم أمام العالم أنا مصر 

مائه وأربعه وثلاثون يوما يتحملون الجوع والعطش وبرد الصحراء القاتل ويتحدون الموت حتى لا يسلم العلم المصرى إلى إسرائيل كما فعل القائد الاسرائيلى الذى استسلم بعد سبعه أيام مسلما العلم الاسرائيلى للقائد المصرى ومؤديا التحية العسكرية للعلم المصرى الذى ارتفع فوق حصن لسان بور توفيق

مائه أربعه وثلاثون يوما ومصر ترفع رأسها أمام العالم فخرا بأبنائها 

كانوا رجال

تحيه تقدير واحترام للشهيد البطل المقدم / إبراهيم عبد التواب ورجاله الذين قهروا المستحيل 

تعليقات

المشاركات الشائعة